الدين وتساؤلات الإلحاد: قراءة في رواية أرض السافلين
في روايته المثيرة للجدل “أرض السافلين”، يصحبنا الكاتب أحمد خالد مصطفى في رحلة إلى أعماق النفس البشرية، ويجعلنا نقف على حافة المجهول، متأملين السؤال الأزلي: “هل نحن وحدنا؟ هل من خالق لهذا الوجود؟”
في العالم الثالث من الرواية، يجد القارئ نفسه في قاعة مناظرة فكرية عميقة، تجمع بين فلاسفة وعلماء ومفكرين من عصور متباينة، يطرحون رؤاهم حول وجود الله، نشأة الكون، وأصل الحياة. ومن خلال هذا المشهد الرمزي، تتجلى إحدى أكثر القضايا تعقيدًا في تاريخ الفكر الإنساني: الصدام الظاهري بين الدين والعقل، بين الإيمان والعلم.
العقل والدين: مواجهة أم تكامل؟
كثيرًا ما يُصوَّر الإيمان الديني على أنه نقيض للعقل، إلا أن هذا الطرح يفتقر للعمق. في الإسلام، يُعد العقل أداة لفهم النص، لا خصمًا له. وقد جاءت نصوص الوحي لتوقظ العقل وتحفّزه على التفكير:
{أفلا يعقلون؟}، {أفلا يتدبرون؟}، {وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟}
وقد كان فلاسفة الإسلام – كابن سينا وابن رشد – من أوائل من رسّخوا هذا التكامل، رافضين الثنائية القاتلة بين النقل والعقل، معتبرين أن الحقيقة لا تتعارض مع نفسها، سواء جاء بها وحي أو توصل إليها فكر.
بداية الكون… من أين جاءت الشرارة الأولى؟
في عصر الفيزياء الحديثة، باتت نظرية “الانفجار العظيم” مقبولة على نطاق واسع لتفسير نشأة الكون. غير أن هذا التفسير، وإن أجاب عن “كيف بدأ الكون؟”، فإنه لا يجيب عن “من أطلق شرارته؟ ولماذا؟”
هنا يتدخل الدين، ليقدّم إجابة تتجاوز المادة والطاقة، مشيرًا إلى خالق أزلي أوجد الكون من العدم: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30].
في هذا النص القرآني، يُشار إلى وحدة مادية أولى (رتق) انفصلت لتكوّن السماوات والأرض (فتق)، في وصف يتقاطع بشكل مثير مع المعطيات الفيزيائية المعاصرة.

النظام والدقة… صدفة أم تصميم؟
من أكبر التحديات التي يواجهها الفكر الإلحادي اليوم هو تفسير دقة القوانين الكونية وثباتها العجيب. الجاذبية، سرعة الضوء، المسافات بين الكواكب – كلها تشير إلى ضبطٍ بالغ الدقة لو اختلَّ لأصبحت الحياة مستحيلة.
هنا تبرز الحجة الغائية أو “التصميم الذكي” التي ترى أن كل نظام يدل على مَن نظّمه. فكما لا يمكن لعقل أن يقبل أن كتابًا كُتب وحده، فمن المنطقي أن يُرفض أن يكون الكون – بكل تعقيده – قد وُجد صدفة.
القرآن يشير إلى هذه الحجة بوضوح:
{صُنع الله الذي أتقن كل شيء} [النمل: 88].
التطور وأصل الإنسان
لا ينكر الإسلام وجود تطور في الكائنات الحية، لكنه يرفض أن يكون الإنسان نتاج تطور عشوائي من كائنات أدنى. فالإنسان في المنظور القرآني كائن مميز مخلوق بإرادة وقصد:
{ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}، ثم {ثم أنشأناه خلقًا آخر} [المؤمنون: 14].
إن الحكاية الإسلامية لخلق الإنسان تنأى عن سردية العبث، وتمنح للوجود الإنساني غاية ومعنى.
الفطرة… البوصلة الداخلية
أحد أعمق الطروحات التي يناقشها الدين – وتُعرض في هذا الفصل – هي فكرة الفطرة. هذا الصوت الداخلي الذي يهمس في الإنسان منذ طفولته: “أنت لم تأتِ من فراغ… هناك خالق لهذا الجمال”.
في القرآن:
{فِطْرَتَ الله التي فطر الناس عليها} [الروم: 30].
قد يضيع هذا الصوت في زحام الحياة، لكن ما إن يواجه الإنسان الموت أو الانكسار، حتى يعود ليسأل: “أين الله؟”
خاتمة: العقل والإيمان… جناحان نحو الحقيقة
ما يميز هذا الفصل في “أرض السافلين” ليس فقط جرأته في الطرح، بل أيضًا إصراره على أن الشك قد يكون بوابة للإيمان، إذا ما كان نزيهًا وصادقًا. وهو ما يتفق مع الرؤية الدينية التي تدعو إلى إعمال العقل دون إسراف أو تعطيل.
إن الدين لا يعادي العلم، بل يرى فيه وسيلة لفهم الخلق، وبالتالي معرفة الخالق. وبينما يسأل الملحد: “كيف؟”، يسأل المؤمن: “من؟”، وكلا السؤالين مشروع، ولكن الجواب الكامل لا يُكتمل إلا حين يجتمع العقل بالإيمان.
الكاتب: علي الاكبر البرجي